(1160 كلمة)
هذه القصة من الواقع المرير، لا من نسج الخيال، وهي حال كثير من شبابنا.. وللأسف الشديد..
طرق الباب علي طارقٌ ذات يوم.. ففتحت له.. فإذا به شابٌ في مقتبل العمر، لم يتجاوز لعقد الثالث من عمره..
فقال بكل حماس: "أتأذن لي بالدخول؟!"
فقلت بكل تعجب: "نعم، على الرحب والسعة..".
وما إن استوى على الكرسي في غرفة المجلس، حتى بدأ يحملق لي بعينين ضعيفتين.. أهزلهما السهر.. وأتعبهما طول الأرق. قال وعبراتهُ تسبقُ عباراته: يشهد الله أنني منذ سنة وأنا أراغمُ نفسي للمجيء إليك..، ولكنها تأبى..
قلت: "أهلاً وسهلاً.. المنزل منزلك".
قال وقد خنقته العبرة: "سوف أدخل في الموضوع بلا مقدمات".
قلت: "تفضل".
قال: "أشكو من هم دائم..، أشكو من ضيق في الصدر ملازم..، أشكو من أرق في النوم..، أشكو من آلام نفسية..، أشكو من القلق الذي أظنهُ سيدمر حياتي..، أشكو من اكتئاب نفسيٍ مؤلم. لا تعجب.. فولله.. ثم والله.. لقد حاولت.. ثلاث مراتٍ أن أقتل نفسي هرباً من جحيم القلق، والاكتئابات النفسية، ومن الهموم والغموم.. ولكن الله سلم.. نعم عناية الله بي ورحمتهُ لي كانت عظيمة..".
قلت: "سبحان الله!!. أنت تمُرُ إذًا بأزمةٍ عظيمة..".
قال: "نعم.. والله إنها لعظيمة.. كيف لا، وأنا أوشكت على الهلاك أكثر من مرة..".
انهمرت دموعه.. وبدأ في بكاءٍ طويل.. رفع رأسه وإذا بعينيه تذرفان.
فقلتُ له: "رِفقاً بنفسك يا أخي..".
قال: "دعني.. دعني.. فأنت لا تعلم سبب هذا البكاء!!".
فقلت: "أخي.. هل تعاني من مشكلة اجتماعيةٍ وقعت بينك وبين قريب لك؟!، أم تعاني من ديون لحقت أسرتك؟!، أم تعاني من مشكلةٍ عائليةٍ بينك وبين والديك، أو زوجتك، أو إخوانك؟!، أم تعاني من أمراض عضوية فتكت بك؟!".
قال: "على رِسلك.. على رِسلك.. لستُ أُعاني من شيء مما ذكرت لي".
قلت: "فما هي معاناتك إذًا؟!".
قال لي بحماس: "معاناتي ليست مادية.. ولا عائلية.. ولا اجتماعية.. ولا عضوية.. معاناتي تكمنُ في أنا".
قلتُ: "كيف؟!".
قال: "بدأت مشواري وأنا في الثانية عشرة من عمري.. فوالله ما تركتُ شيئاً من حلالٍ أو حرامٍ استطيع أن أصل إليه إلا وفعلتُه.. شاء من شاء، وأبى من أبى.. معاناتي تكمنُ في هواي.. في شهواتي.. في ملذاتي..، نعم.. كنتُ عبداً لهواي..".
قلت: "سبحان الله.. أين منك داعي الحق؟!، أين منك صوت المؤذن؟!، أين منك نداء الفطرة السوية؟!، أين منك دينك وخُلُقك؟!".
قال: "لا تعجب.. والله إني تعبتُ من ملاحقة الشهوات، والتقلُب على أعقاب الملذات، والإغراق في الملهيات.. نعم حتى الثمالة..".
قلت: "لماذا؟!، لماذا كان هذا الجُنوح عن طريق الرجولة والحق؟!".
قال: "كنت أبحث عن الراحة.. نعم.. أبحث والله عن السعادة.. ظننتها في كأس الخمر.. فلم أجدها.. وظننتها في حبة المخدر..، فلم أجدها.. بل وظننتها في الفواحش والرذائل.. فلم أجدها.. نعم لم أجدها.. والله ما تركتُ باباً أظنُ أن خلفهُ سعادة إلا وقرعتهُ..، وحاولت الولوج فيه.. كل ذلك لأحصل على السعادة.. لأحصل على راحة البال.. لأحصل على سعة الصدر والطمأنينة.. لأحصل على الهدوء في النوم والراحة فيه.. بل لأحصل على علاجٍ لاكتئاباتي النفسية التي باتت تحيط بي كإحاطة السوار بالمعصم، حتى صرتُ أشعرُ بالاختناق أحياناً.. وعندها.. لمعت لي فكرةٌ.. وقلتُ تجربة.. أُجربها.. ولن أخسر شيئاً أكثر مما خسرتُه من قبل.. وها أنا ذا بين يديك.. أسألك بالله العظيم أن تعطيني دواءً ناجعاً لمأساتي فلا تخذلني..، وكن ناصري ومُعيني- بعد الله-".
قلت: "أَمَا وقد حضرتَ.. وقلتَ ما قلتَ.. وطلبتَ مني النصرة والإعانة على ما أنتَ فيه من ضيقٍ للصدر، وهمٍ وغمٍ..، فلي شرطٌ واحدٌ، لأخبرك بأصل مادة السعادة والراحة والطمأنينة".
قال (بحماسٍ وتعجُل): "قل ما شئت من الشروط، اكتب ما أردتَ من الطلبات، فقد تعبت.. والله تعبت".
قلت: شرطي.. أيها المبارك.. أن تنصت لي أثناء طرحي للعلاج، وأن تعمل به على الفور، لتكون النتيجة فورية.. وتزود بالصبر، فقد صبرتَ كثيراً على ألم الأرق والهمِ والضيق.. فاصبر قليلاً.. فقد حان الوقت لتعلم كيف تتخلص من همِك وغمِك.. نعم..اصبر قليلاً.. وتأمل قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة:153]، فلا تحزن"..
وإليك أيها الأخ المبارك بالعلاج..
إليك ببلسم الشفاء..
إليك بجنة الدنيا و الآخرة..
إليك بالنعيم الدنيوي قبل الأخروي..
إليك بأصل مادة الراحة والسعادة.
إليك يا مَن أتعبَ نفسه ليجد الكنز المفقود.. إن كنزك موجود.. بيد أن قلبك مفقود.. فبادِر قبل أن تُبادَر لأحيائه بالسعادة والإيمان..
وصدق الأول حين قال:
إذا الإيمانُ ضاعَ فلا أمانٌ *** ولا دنيا لمن لم يحي ديناً
اعلم أيها المبارك.. أن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، أصل سعادة الإنسان، بل هو جنة الدنيا للمؤمن، وخاتمتُه جنة الآخرة له إن شاء الله.
ثم اعلم.. أن الإيمان لغة: ضد الكفر، وهو بمعنى التصديق..
وشرعاَ: اعتقاد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
قال ابن القيم:
واشهد عليهم أن إيمان الورى *** قولٌ وفعلٌ ثم عقد جنانِ
وقال الإمام الشافعي في [الأم]: ( وكان الإجماع من الصحابة والتابعين مِن بعدهم، ومَن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قولٌ وعمل ونية، ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر ).
ويقول ابن رجب: ( ولا صلاح للقلب بدون الإيمان بالله.. ).
إذا عُلِمَ هذا فلتعلم أن أساس قبول العمل عند الله هو الإيمان؛ لقول الله جل وعز: فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ [سورة الأنبياء:94]، وقوله: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]. لماذا؟ لتَغَيُب الإيمان عنه..
وأن أفضل الأعمال عند الله وأزكاها هو الإيمان، لِمَا روى أبو ذر من سؤاله لرسول الله : يا رسول الله، أيُ الأعمال أفضل؟ قال: { الإيمان بالله، والجهاد في سبيله }. وأنهُ سببٌ للهداية والسعادة الدنيوية والأخروية؛ لقوله جل وعز: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ [سورة الأنعام:125]، ولأنه صارفٌ للمؤمن عن المعصية، لقوله جل وعز: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201]، وقصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار عبرةٌ وفائدة.
إذا عُلِم هذا فلتعلم أن المؤمن ينعمُ بمعية الله العامة والخاصة معاً، فإن المعية عامةٌ وخاصةٌ، فالعامة: هي الإحاطة بالعباد علماً وقدرة وتدبيراً وسلطاناً وكل ما يتضمنه معنى الربوبية وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [سورة الحديد:4].
والخاصة: هي لأحباب الله وأوليائه، وهي بإعانتهم ورعايتهم وكفايتهم ونصرتهم وتأييدهم وهدايتهم، وتوفيقهم، وتسديدهم إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [سورة النحل:128]. وقال جل وعز: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا [سورة التوبة:40]، وهي قصة الهجرة النبوية دليلٌ على هذه المعية.
ومن كان هذا حالهُ فإن الله يدافعُ عنه وينصرهُ ويحميه؛ لقوله جل وعز: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحـج:38]، فيحفظهم من شر الأشرار، وكيد الفجار.. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [سورة الزمر:36]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم:47].
فليحذر الذين يتوخون أذية المؤمنين، أو يخذلونهم ولا يناصرونهم من قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [سورة الأحزاب:58]، ولا ينسوا قوله تعالى في الحديث القدسي: { مَن عادى لي ولياً فقد آذنتهُ بالحرب }.
فأهل الإيمان هم أهلٌ للرضوان، يقول كما عند بخاري: { إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة كما يتراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في الأُفق، لتفاضل ما بينهم }، قالوا: "يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم". قال: { بلى والذي نفسي بيده.. رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين }.
قال ابن سعدي في [التوضيح]: ( وإيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين في ظاهرهم وباطنهم، في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم، وفي كمال طاعتهم لله ولرسوله ، فقيامهم بهذه الأمور به يتحقق إيمانهم بالله وتصديقهم للمرسلين ). ا.هـ.
ولهذا قال ابن رجب رحمه الله في [لطائف المعارف]: ( ما قدم أحدٌ حق الله على هوى نفسه وراحتها إلا رأى سعادة الدنيا والآخرة، ولا عكس أحدٌ ذلك وقدم حظ نفسه على حقِ ربه إلا ورأى الشقاوة في الدنيا والآخرة ). |