(697 كلمة)
الحمــد لله، نحمده ونســتعينه ونســتغفره ونتــوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فــلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشــهد أن لا إله إلا الله وحده لا شــريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه سلم تسليماً.
إذا ســافر الخيال، وأطياف الأماني معه تجول تتراءى في الأفق دوحة غناء، تجملها أنهار وأطيار، ترسم صوراً متتالية فوق قارة مترامية الأطراف تُســمى أفريقياً. ما ذكر اســمها إلا وتزاحم تصــور الغابات الممتدة وأصــوات الحيوانات المفترسة، وألوان الطيور الزاهية..
الكل يحدوه الشــوق لســماع الحديث عنها، والسفر إلى أنحائها. ولأن الرحلة طويلة، والأجواء ممطرة؛ ســنحط على غصن يُشــرف على أعالي الجبــال، ومصبات الأنهار.. لنرى ونسمع ما يجول تحت الأشجار.
لــك أن تتأمــل بني البشــر، والغابات، والحيوانــات الأليفة، والوحوش المفترســة.. إنه صــراع اتخذ من البقــاء هدفاً، ومن القوة تسلطاً، صراع عجيب ارتفع ضجيجه، وثار غباره، وعلــم أثره، إلا أن المعني بالأمر لا يزال في ســبات عميق، بل ويؤرقه التلميح بهذا الأمر دون التصريح، ولندعه يهنأ بنومه، ونصغي السمع لثلاثة مشاهد رأيتها بأم عيني تحكي واقع هذا الصراع.
المشهد الأول:
مئة وعشرون ألف لاجئ مسلم في كينيا اتخذوا من جذوع الأشــجار، وأوراق الأغصان سكناً لهم في خمسة مخيمات متقاربة، يموت فيها أســبوعياً مئة طفــل تقريباً من جراء نقص الغذاء وســوء الرعاية الصحيــة، ومن بقى منهم على قيــد الحياة فهو عظــم بارز، وجســم ناحل، وآهة خافتة لا تجرؤ على اقتحام أســوار المخيم، كثير من الأســر التي قدمت من الصومال إلى هذه المخيمات وصلت بعد أن فقــدت معظم أفرادهــا.. فبينهم وبين هذه الأكواخ مفازات، وقفار، ووحوش ولصوص، ومســيرة أسبوعين على الأقدام!
ولأن الفرصــة مواتيــة، والريــح تحرك الشــراع في هذه المخيمات فقد شــمر منصِّر وزوجته ـ وســط المئات من المنصِّرين أتوا من أقطارالدنيا ـ لافتراس مابقي من الأحياء. وتســمى المنصِّر بعلي وزوجته بخديجة، والأمر مرتب له بعناية، وبخطط طويلة الأمد أمضيا منها ســنوات قبل القدوم في إجادة اللغــة الصومالية.. ولأن الجوع يضرب أطنابه، والقحط ألقى بظلاله فقد نصب هؤلاء خيامهم وأدلــوا بســقائهم.. وهاهم أطفال المســلمين يهرعون خلفهم، وأمهات المسلمين يستعطفونهم.
المشهد الثاني:
مضى عام، وتبعه آخر، وطالت به السنون حتى تجاوزت الخمس، وهو يقبع بجوار بئر حفرها، ومدرسة أسسها. في يوم ارتفعت فيه أشــعة الشمس، رسمت خيوطاً ذهبية على ما تبقى من شــعيرات رأســه، تأمل فإذا شيخ طاعن في الســن قد احدودب ظهره، وهزل جســمه، وارتعشت أطرافه، يقبــع في زاوية المبنى ويطيــل النظر إليه، تأمل وفكر! لماذا ينظر؟ وفيم يفكر؟ وعندما اســتوثقت منه عيناً ذلك الشيخ سأله الرجل: لماذا تنظر؟ وفيم تفكر؟
أجاب بصوت قطعه أنين الشــكوى إلى الله من تهاون الأمة: أنت رجل فاضل، ومحسن كريم، ولك سنوات تعين أهل الحاجات، وتســير في ركاب الخير، ولكن ينقصك شيء واحد؟
تعجب الرجل، وســأل الشــيخ على عجل: ومــا هو؟ اتكأ الشــيخ على عصاه، وأمال رأســه، ورفع ســبابته وقال: أن تقول أشــهد أن لا إله إلا الله، وأشــهد أن محمد رسول الله. صعــق الرجل، وأســقط في يده. ســنوات وهو يدعو إلــى نصرانيته.. ويعطي، ويبذل من ماله، ووقته، ثم هذا حصــاد ثمــره.. ولأنه في الغابة، ويســكن قلبه شــريعتها تحول غضبه إلى فعل فطمر البئر، وأحرق المدرســة، ثم ولى مدبراً!
المشهد الثالث:
المــرأة بيت القصيد في سلســلة مترابطة لهدم الأســرة المســلمة؛ ولأنهــا أســهل الوســائل وأقربهــا ـ حســب التجــارب والوقائع ـ فقــد أقامت جمعيات (إنســانية) في مخيمات اللاجئين أماكن لتجمع النساء، وإقامت الحفلات، والمســرحيات وســط مجاعة مهلكة، ومســغبة قاتلة.. وعندمــا رفض الحضــور ولم تتقدم إليهــم من تراقص أوروبيــاً وتأخذ بيد رجل أجنبي هرعــوا إلى مجال التوظيف. نعم فهناك نســاء موظفات لديهم بأجر شــهري لنظافة المخيمات.. قلبوا الأمر، واشترطوا عليهن لاستلام المرتبات الحضور إلى ذلك المكان مساء كل أحد.
وعلى استحياء من المسلمات كانت البداية. ومضت خمس سنوات كان لهم فيهــا ما أرادوا ولا تزال أعــداد الراقصات تزداد، وأصوات الطبــول ترتفع، وأهازيج الفرح تزهــو، وتحولت من كانت محجبة مصلية إلى دمية في أيديهم!
وفي هذا المجتمع الصغير ترى حال الأمة مشابهاً، بل هو صورة مصغرة منه تمامــاً، وإن أنكرت عليَّ هذا التصور؛ فأرسل طرفك في أماكن الســياحة البحرية، وقل لي بربك من يصدق أن امرأة مسلمة خالط الإسلام شغاف قلبها تقف على شــاطئ البحر عارية، أو شــبه عارية! وإن سألت عن الاسم فهذه عائشة، وتلك فاطمة وأخرى خديجة! ولكن كيف حدث هذا في عشرين سنة فقط أو ثلاثين!
تحولت الرحلة إلى أفريقيا إلى بقايا أحزان، وأطلال سعادة.. وانتهت الإجازة بين مُشرق ومُغرب، وكل نفس بما كسبت رهينة.. وفي رصد للواقع واستقراء سريع يلازمك الحزن أينما حللت، وحيثما ارتحلت، وتبقى طائفة من أمتي على الحق منصورة!. |