(2430 كلمة)
الحمد لله تعالى الذي علا في سماواته. الذي جعل الموت والحياة آية من آياته. والصلاة والسلام على محمد سيد البريات. وصاحب المعجزات الباهرات. وعلى آله وأصحابه ألوية الصدق، ونسيم الأنفس الزاكيات وبعد.
أخي المسلم: رووا أن أعرابيا كان يسير على جمل له فخر الجمل ميتا! فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به يتفكر فيه! ويقول: مالك لا تقوم؟، مالك لا تنبعث؟!، هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة!، ما شأنك؟، ما الذي كان يحملك؟!، ما الذي كان يبعثك ما الذي صرعك؟!، ما الذي عن الحركة منعك؟! ثم تركه وانصرف متفكرا في شأنه!
أخي: إنه (الموت!) مهلك العباد.. وموحش البلاد وميتم الأولاد... ومذل الجبابرة الشداد.. لا يعرف الغير.. ولا يميز بين الوضيع والوزير.. ولا يحابي صاحب المنصب الكبير.. سيوفه على العباد مصلتة.. ورماحه على صدورهم مشرعة.. وسهامه لا تطيش عن الأفئدة.
خبر علمنا كلنا بمكانه *** وكأننا في حالنا لم نعلم
أخي: إنه (الموت) كم قرح من قلوب.. وكم أوقع من كروب.. أبشع من أن يوصف! وأشد من أن يعرف!، سره مطوي من الخلائق.. لا يعلمه إلا كاشف الضر والبوائق... تبارك وتعالى وتنزه من خالق..
أخي: كأس الموت أمر من الحنظل!، لا يعرف طعمها إلا من ذاقها!، وأنى لمن ذاقها أن يوصفها على حقيقتها؟!
- لما نزل الموت بعمرو بن العاص قال له ابنه: يا أبت قد كنت تقول: إني لا أعجب من رجل ينزل به الموت ومعه عقله ولسانه كيف لا يصفه؟!
فقال: يا بني الموت أعظم من أن يوصف!، ولكن سأصف لك منه شيئا والله لكأن على كتفي جبال رضوى وتهامة!، وكأني أتنفس من سم إبرة!، ولكأن في جوفي شوكة عوسج!، ولكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما!
أخي: يا حر قلب علم أن له يوما يتجرع فيه مرارة تلك الكأس!... أخي ألا قلت معي بقلب صادق: اللهم هون علينا سكرات الموت يوم تطوى صحائفنا! وتنقضي أيامنا!، برحمتك يا راحم المستعيذين بك... وواهب المخطئين لعفوك..
أخي: ألا أنبه ما بك من الغفلة؟ ألا أدخل الفزع في قلبك فخذ أخي هذا الوصف الفظيع للموت! قال عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- لكعب: يا كعب حدثنا عن الموت!، قال: إن الموت كشجرة شوك أدخلت في جوف ابن آدم!، فأخذت كل شوكة بعرق منه! ثم جذبها رجل شديد القوى فقطع منها ما قطع، وأبقى ما أبقى! أخي: فيا لله كم هذا الموت فظيع وكم هو شديد وعظيم!، وروى أيضا: أن الموت أشد من ضرب بالسيوف! ونشر بالمناشير! وقرض بالمقاريض! وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19]، حقا.. يا لها من سكرة ويا لها من شدة هنالك حيث الروح تحشرجت!، والأعين قد شخصت!، والقلوب قد وجفت!، والكلمات تلجلجت!، فيا لله! كم في ذلك من كربات! وكم فيه للنفوس من مصائب وبليات!
أخي في الله: أليس مما يدخل الفزع في النفوس! أن نبينا يوم أن أجاب داعي ربه سأله ربه -تعالى- أن يخفف عنه سكرات الموت؟!!، فها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تحكي لنا ذلك فتقول: وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه فيا لماء فيمسح بها وجهه يقول: {لا إله إلا الله إن للموت سكرات!} [رواه البخاري]، وللترمذي: {اللهم أعني على غمرات الموت! أوسكرات الموت!} [حسن غريب].
أخي: ما أعظم سكرات الموت!، وما أشد كرباته!، أبعد رسول الله يرجى لأحد أن يشرب كأس الموت صافيا؟!
فمثل نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات! ونزل بك الأنين والغمرات!، فمن قائل يقول: إن فلانا قد أوصى وماله لا يحصى، ومن قائل قول: إن فلانا ثقل لسانه. فلا يعرف جيرانه!، ولا يكلم إخوانه!، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب!، ثم تبكي ابنتك وهي كالأسيرة وتتضرع وتقول: حبيبي!، أبي!، من ليتمي من بعدك؟!، ومن لحاجتي؟!، وأنت والله تسمع الكلام!، ولا تقدر على رد الجواب!
وأقْبَلتِ الصُّغرى تُمرِّغُ خدَّها *** على وجْنتي حينًا وحينًا على صَدْري
وتَخمشُ خدَّيها وتَبكي بحُرْقةٍ *** تُنادي: أبي إني غُلِبْتُ على الصَّبْر
حَبيبي أبي مَنْ لليتَامى تركتَهمُ *** كأفراخ زُغْب في بعيدٍ من الوَكر
أخي المسلم: لمثل هذا اليوم! فلتعد الزاد.. لمثل هذا اليوم!، فتهجر العناد والفساد.. ولمثل هذا اليوم!، فلتتق رب العباد..
دخل الحسن البصري رحمه الله على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت! فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم!
فقالوا له: الطعام يرحمك الله.
فقال: يا أهلاه! عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه!
أخي: أولئك الصالحون حقا. أخذوا في التهيؤ للرحيل.. وقد غفل الغافلون! حتى هجم عليهم الموت! فطالت الحسرات وكثرت الجراحات.. فيا لسعادة أهل الخواتم الحسنة يوم تتلقاهم الملائكة: سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32] وقال الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا [الأحزاب: 44].
قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى يسلم عليه أخي في الله: إذا انكشف غطاء الحياة الفانية!، خرجت تلك الأرواح المؤمنة الطاهرة تنزف إلى بارئها تعالى.. وقد أحدقت بها الملائكة المقربون فتفتح لها أبواب السماوات!، فسيتبشر بها أهل السماوات، ويثنون على صاحبها! وهم يتنسمون ريحها الطيب! الذي يشبه عمل صاحبها!
فيا الله! ما أسعدها من لحظات لتلك الأرواح الطاهرة وكأنها تقول: وداعا دار النحس والنكد.. وداعا دار الشفاء والجهد.. وداعا أيتها الدار الدنية.. الآسنة الردية..
أخي: سلمني الله وإياك من كل سوء، تلك هي قصة الأرواح الطاهرة! وها أنا أخبرك بقصة عروجها الطاهر، كما أخبرنا بذلك النبي إذ يقول : { إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس! معهم كفن من أكفان الجنة! وحنوط من حنوط الجنة! حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان }.
قال: { فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء! فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين! حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض! } قال: { فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟! فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها! حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة!. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى } [رواه أحمد وغيره، صححه الألباني].
أخي: أرأيت كيف سعدت تلك الأنفس الزكية بلقاء بارئها تعالى؟!، فما أسعدها من أرواح عاملت ربها -تعالى- في الدنيا بالصدق والإخلاص فلقاها جزاء الصادقين.. وألبسها رداء الصديقين.. ولمثل هذا فليعمل العاملون...
ثم أخي أما بلغك خبر تلك الأرواح التي تنكرت لخالقها تعالى! فكفرت بعبوديته تعالى؟!، فما هي قصتها يا ترى لقد جازاها الله -تعالى- جزاء أعدائه!، الذين أعد لهم من العذاب والنكال ما تتفطر لذكره الأفئدة! فها هو نبينا الصادق -صلى الله عليه وسلم- يخبرنا عن تلك الأنفس الخبيثة التي لم تقم بوظيفة العبودية لله -تعالى-! قال -صلى الله عليه وسلم-: {وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه! معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب!} قال: {فتفرق في جسده! فينتزعها كما ينتزع السفود (حديدة يشوي بها اللحم) من الصوف المبلول! فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين! حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض! فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا! حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له! ثم قرأ رسول الله : لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا! ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] } [رواه أحمد وغيره، صححه الألباني].
أخي: أرأيت كيف هو مصير أهل الخواتم الرديه؟! أعاذني الله وإياك من الخواتم السيئة.. أخي: ما أشقى روحه ملائكة العذاب! وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
أخي المسلم إنها منزلتان بعد الموت! لا ثالث لهما: إما لهما: إما أن تأتيك ملائكة الله تزف لك البشرى برضوان الله تعالى، وأنت يومها السعيد فزت وأفلحت.. وإما أن تأتيك ملائكة سود الوجوه تبشرك بسخط الله تعالى وسوء الخاتمة! فما أشقاك! وما أعظم خسراتك!
أخي: ألا دموع تذرفها؟! ألا زفرات تنفثها؟! ألا توجعات من بين الضلوع تخرجها؟! حقاً! قست القلوب! وران عليها غطاء الذنوب! نودع الأموات والقلوب أموات! نودع الأموات ولا عبرة ولا عظات! نودع الأموات ولا سؤال: أين القرار في النيران أو الجنات؟! نودع الأموات وها نحن قبل الممات أموات!
أخي في الله: إنه (كأس الموت!) وهو حكم الحي الذي لا يموت تبارك وتعالى.. فهل تذكرت أخي أنك ستتجرع يوما هذا الكأس حتى النهاية؟!!
أخي: (إنه هادم اللذات!) دعاك النبي إلى كثرة تذكرة إذ يقول : { أكثروا ذكر هاذم اللذات } [رواه الترمذي ونسائي، المحدث: الألباني، حسن صحيح، صحيح الترغيب 3333].
أخي: أتدري ما معنى: (هادم اللذات؟!) إنه قاطعها ومعدمها! حقا! أنه مزيل النعم... وقاطع اللذات! فهل من معتبر؟!
أخي: تذكر الموت يورث صدق الإقبال على الله تعالى ويمحو عن القلب آثار الدنيا! قال الدقاق: ( من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة ).
أخي: ألا تنضم إلى قافلة أهل الصائر؟! الذين كان ذكر الموت شعارهم.. ومحاسبة النفس دثارهم.. فهنيئاً أخي لمن كان في ركابهم! وهاهم يمرون فيملأون النفس عظة وذكرى..
- فهذا سفيان الثوري رحمه الله كان إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياما! فإن سئل عن شيء، قال: ( لا أدري! لا أدري! ).
- وقال التيمي رحمه الله: ( شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت! وذكر الموقف بين يدي الله تعالى! ).
- وكان محمد بن واسع رحمه الله إذا أراد أن ينام قال لأهله قبل أن يأخذ مضجعه: أستودعكم الله! فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم فيها! فكان هذا دأبه إذا أراد النوم.
أخي المسلم: تلك هي حال الصالحين.. عرفوا أنهم لهم يوما يفارقون فيه دار الغرور! فتذكروا ساعة الرحيل.. وأعدوا الزاد للسفر الطويل..
أخي: يا ترى ما الذي دهانا؟! قد أطبقت الغفلة على القلوب وما تركت فيها موضعا لتذكر ذلك اليوم الموهوب.
أخي: هذا لمن سمع ندائي:
إخواني ما هذه السنة وأنتم منتبهون؟!
وما هذه الحيرة وأنتم تنظرون؟!
وما هذه الغفلة وأنتم حاضرون؟!
وما هذه السكرة وأنتم صاحون؟!
وما هذا السكون وأنتم مطالبون؟!
وما هذه الإقامة وأنتم راحلون؟!
أما آن لأهل الرقدة أن يستيقظوا؟! أما حان لأبناء الغفلة أن يتعظوا؟! واعلم أن الناس كلهم في هذه الدنيا على سفر! فاعمل لنفسك ما يخلصها يوم البعث من سقر!
آن الرحيل فكن على حذر *** ما قد ترى يغني عن الحذر
لا تغترر باليوم أوبغد *** فلرب مغرور على خطر
أخي: أليس من العجيب أن تودع كل يوم ميتا! ثم لا يحرك ذلك قلبا؟! ولا يثير خوفا أو فزعا؟!
بل كان الموت مكتوب على هذا المشيع وحدة! أخي كم هي هذه الغفلة قبيحة! وكم هي كريهة وشنيعة! إنه عمى القلوب! وما أسوأه من عمى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].
قال الربيع بن برة: "عجبت للخلائق كيف ذهلوا عن أمر حق! تراه عيونهم، وتشهد عليه معاقد قلوبهم، إيمانا وتصديقا، بما جاء به المرسلون. ثم ها هم في غفلة عنه سكارى يلعبون!".
أخي في الله: تذكر الموت أنفع دواء للغفلة! فيا لهف نفسي إن لم يشفك ذلك أخي فأي دواء يشفيك؟! أم أي ترياق ينجيك؟! أخي: حقا! إن غطاء الغفلة شر غطاء! وإن رداء الغفلة شر رداء.. ومن لبسه اجتمعت عليه الأدواء.
أخي: إذا شغلتك الدنيا! فتذكر الموت.. فإنك راحل! ولن تجد أخي لتلك النفس سوطا أشد عليها من تذكر الموت! فإنه السوط الرادع الذي لطالما ضرب به الصالحون قلوبهم فارتدعت! وعادت طيعة... ذلولة إذا سلكت سبيل الطاعات! ونفورة... جامحة إذا دنت من سبيل المعاصي والخطايا!
"فتفكر يا مغرور في الموت وسكراته! وصعوبة كأسه ومرارته! فيا للموت من وعد ما أصدقه!، ومن حاكم ما أعدله! كفى بالموت مقرحا للقلوب!، ومبكيا للعيون ومفرقا للجماعات!، وهادما للذات!، وقاطعا للأمنيات!
فهل تفكرت يا بابن آدم في يوم مصرعك وانتقالك من موضعك؟!، وإذا نقلت من سعة إلى ضيق! وخانك الصاحب والرفيق! هجرك الأخ والصديق! وأخذت من فراشك وغطائك إلى غرر! وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر!، فيا جامع المال والمجتهد في البنيان! ليس لك والله من مال إلا الأكفان!، بل هي والله للخراب والذهاب! وجسمك للتراب والمآب! فأين الذي جمعته من المال؟!، فهل أنقذك من الأهوال؟!، كلا بل تركته إلى من لا يحمدك!، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك!!" الإمام القرطبي.
أخي: إن طوال الأمل خلف كل بلية!؛ فالكل إذا أصبح ومسح النوم عن عينيه قتل الحبال الطوال من الآمال!
فيا لله... لقد افترشنا الآمال!، والتحفنا الآمال!، وتوسدنا الآمال!، لا الكبير يرده دنوه من الأجل!، ولا الصغير يرتدع بموت من هو في الصغر!
أتَطْمَعُ أنْ تُخَلَّدَ لا أَبالَكْ *** أَمنْتَ من المنِيَّةِ أَنْ تَنَالَكْ
أَمَا والله إنَّ لَهَا رَسُولًا *** وأَقْسمُ لو أتَاكَ لما أَقالَكْ
كأنِّي بالتُّرابِ عَليكَ رَدْمًا *** وبالبَاكينَ يَقْتَسمُونَ مَالَكْ
فَلَسْتَ مُخَلِّفًا في النَّاس *** ولا مُتَزَوِّدًا إلاَّ فِعَالَكْ
أخي: تذكر الموت ترياق نافع لعلاج داء (طول الأمل!).
فقد جاء أن امرأة جاءت إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تشكو إليها قساوة قلبها! فقالت لها عائشة رضي الله عنها: ( أكثري من ذكر الموت يرق قلبك! ) ففعلت المرأة ذلك، فرق قلبها! فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها.
أخي: ما أطال أحد الأمل إلا وركن إلى دنياه الفانية فأفنى أيامه في غير الطاعات.. وأضاع ساعات عمره في أحلام الأمنيات.
قال الحسن البصري رحمه الله: ( ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل! ).
أخي: وقف عند هذه القصة مع الصالحين يعلمونك: ما هو طول الأمل؟!
ففي لقاء جمع القلوب المؤمنة وهي تؤدي الصلاة، وفي الجمع قدوة الزهاد، وزينة العباد معروف الكرخي رحمه الله فأقام معروف الصلاة ثم قال لمحمد بن أبي توبة: تقدم.
فقال محمد: إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها.
فقال معروف: وأنت تحدث نفسك أن تصلي صلاة أخرى؟! نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل!
أخي المسلم: كم مضى من الدنيا؟!، وكم هلكت من أجيال وأمم؟!
أخي: كم مرت عليك من الأيام؟!، كم مرت عليك من الشهور؟!، كم مرت عليك من الأعوام؟
أخي: كم من ميت من إخوانك وأحبابك أودعته في جوف الثرى؟!
أخي: كم مرة في يومك أو شهرك أو سنتك تذكرت الموت؟!
أخي: كم مرة في حدثتك نفسك أنك قد تموت اليوم أو غدا؟!
أخي: كم من العمر مضى وانت تؤمل الآمال العراض؟!
وهل بلغت كل كما تؤمل؟! وإن هل وقفت بك الآمال عند أملك؟!
أخي: تذكر... ثم تذكر.. وإليك: "للعبد رب هو ملاقيه، وبيت هو ساكنه، فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه" الإمام ابن القيم.
أخي: هو الموت!، زائر غير محبوب... ووارد غير مرغوب وقريب غير مطلوب... قاطع اللذات.. ومفرق الجماعات ومبدد الأمنيات..
أخي: كن على حذر! وهل يغني الحذر؟! ما بقى أخي غير العمل الصالح فهو خير زاد.. وخير رفيق يوم المعاد.. وروضتك يوم الرقاد.. وأنيسك إذا تفرق عن قبرك العباد.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. |