(725 كلمة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
غمرني والدي بحبه الذي لا حدّ له، فجعل مني شاباً يتطلع لغد أفضل أملك موهبة التحصيل العلمي، مما جعلني متوفق في دراستي الأمر الذي صرت فيه محسوداً من قبل الزملاء ضعاف النفوس الذين لا يملكون إلا هذا المرض تجاه من يمنحهم الله فضلاً من عنده.
أرى علامات البشر والرضاء في عيني والدي كلما رآني قادماً من المدرسة، أسمع خفقان قلبه تحكي صوراً لم يفصح عنها، ولكنها ترتسم على محياه ولا يشعر بها، أحس أنه يرى نفسه في شبابي، يرى أيامه الخوالي كلما رآني فيذكر طفولته الغابرة، لم أجد تفسيراً لتلك الدمعة التي تنحدر على وجنتيه التي خط الكبر فيها خطوطاً متعرجة، فجعلت منها لوحة رائعة توضح تمسك هذا الرجل بمبادئه، بعد مدة تجرأت وسألته عن سر تلك الدمعة التي تنحدر كحبة لؤلؤ تبحث عن حياة في قاع البحر، فنظر إلى البعيد كأنما ينظر لسراب قائلاً: فقدت والدي وأنا بأمس الحاجة إليه، فزاد قلقي عليك ولا أدري لماذا؟
منحني الثقة المطلقة وأنا بعد لم أزل صغيراً عليها، لذلك لم أستوعب أن يمنح المرء ثقة والده وهو في سن مبكرة، السيارة تحت يدي والمال الوفير يملأ جيوبي، فأحسست بالسعادة وبخيوط الحرية أطلقتني من شباكها، فبدأت أحاول أن أستكشف أطراف المدينة كلما سنحت لي الفرصة، فصارت بعد ذلك رغبة يومية، فكان من الطبيعي أن أتأخر في العودة إلى المنزل بعض الليالي، وأحياناً لا أعود إلا في الهزيع الأخير من الليل، ولم أجد ذلك الذي يجب أن يكون بالمرصاد كلما تأخرت، أين أنت، لماذا تأخرت، ومع من كنت؟
ولكن سياج الثقة الممنوح لي حال بيني وبين هذا السؤال المهم، فألفت العودة للمنزل متأخراً، وألفت الترحال والتسكع بلا هدف وأنا أجوب أطراف المدينة.
أرى ملامح القلق على محيا المعلمين بسببي، فأنا بدأت أعتمد على ذاكرتي فقط في الدراسة أو ما ألتقطه من المعلم أثناء الشرح حال اليقظة وأنا في الفصل، إلا أن هذا المعلم لم يطرح السؤال المهم، أين أنت؟ وما سبب هذ السهر؟
أحس بصداع مزمن لا أجد له تفسيراً.. وما هو سببه؟ أسهر لأطرد ذلك الصداع فيزداد ألماً.. أنام لأهرب من الصداع، فأستيقظ من شدة الصداع، تناولت ما يسمى بالبنادول لأقاوم ذلك الصداع، فيهدأ قليلاً ثم يعود الألم مرة أخرى، ولا زلت لا أدري ما هو السبب.
ذهب بي والدي الحنون لأحد معارفه من الأطباء ليأخذ رأيه في هذا الصداع.. وفي عيادة الطبيب انفرد بي وقال لي: أين تذهب كل ليلة؟ وماذا تعمل؟ وماذا تشرب؟
فنظرت إليه باستغراب واشمئزاز، كيف لطبيب أن يلقي مثل هذه الأسئلة؟ فابتسم وعرف أني معترض على أسئلته، إلا أنه طلب مني الإجابة فأخبرته بما أراد على تضجير مني..
قلت: أنا في كل ليلة أذهب إلى صديق لي أتناول معه قليلاً من الشاي ثم أجوب أطراف المدينة تجوالاً وأعود إلى البيت حينما يشتد بي الصداع.
فقال الطبيب: منذ متى وأنت تشرب هذا الشاي عند صديقك؟
فقلت: منذ شهرين تقريباً، وهي المدة التي بدأت أحس فيها بالصداع.
فقال: هل تتذكر أول ليلة شربت فيها ذلك الشاي عنده؟ صفه لي بكل وضوح..
فاستغربت لطلب هذا الطبيب الذي تحول إلى محقق وهو لا يدري، إلا أن خجلي دفعني لأن أخبره وأنا غير مقتنع بما يقول.
فقلت له: في تلك الليلة كنا مجموعة من الزملاء عند صاحب لي وكان لديه ضيف قادم من مدينة أخرى، فكان موضع الحفاوة والتكريم وقدم لنا في تلك الجلسة شاياً لفت نظري طعمه، فقد كان على غير العادة فهممت أن أضعه ولا أشربه، فرأيت الجميع يرمقونني بأبصارهم فشربته مجاملةً لصاحب الدعوة، ثم بعد ذلك تناولنا العشاء، وذهب كل إلى طريقه وبيته، وفي نفس الوقت من الليلة المقبلة أحسست برغبة الى ذلك الشاي بالذات، ولكن من غير المعقول أن أذهب إلى صاحبي هكذا وأطلب منه قليلاً من شاي البارحة.. فافتعلت حيلة وذهبت إليه بحجة أني أساله عن صاحبه، وهل سافر أم سيمكث في المدينة لأقوم بواجب الضيافة، فرحب بي وأدخلني وقدم لي ذلك الشاي، فقلت له برغبة خفيفة لعله أن يكون مثل شاي البارحة، فرمقني بنظرة أحسست أنها اخترقت أحشائي ولا أدري ما سببها، ورأيت على شفتيه ابتسامة صفراء، فقال: نعم هو من شاي البارحة بل أحسن، وكلما أحسست برغبة إلى هذا الشاي فالبيت بيتك.
ومنذ ذلك اليوم وأنا أمر عليه وأشرب ذلك الشاي.
وبعد فترة قصيرة خرج صاحبي بسيارته ليلاً واصطدم بعامود النور وفارق الحياة، ومن يومها والصداع يحطم رأسي فظننت أنه بسبب الحزن على صاحبي، فولّىّ الحزن وبقي الصداع حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، أكاد أجن ولا أدري ما هو السبب؟
فتح الطبيب الباب، ونادى والدي وألقى عليه الخبر الذي نزل عليه وعليّ كالصاعقة: ابنك يا عزيز مدمن وهو لا يدري..
فسقط والدي مغشياً عليه.. وأنا بعده تحولت الى كومة من اللحم ألقيت في أحد المصحات بعدما ذبل عود الشباب.. وراح بريقه.
فمن يعتبر.... من يعتبر.. !! |