(1332 كلمة)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فاعلم وفقك الله أن أعز ما يملك الإنسان في هذه الحياة دينه وعمره، وسيأتي على الإنسان ساعة يبكي فيها على هذا العمل، لذا ينبغي لمن هو قادم على هذه الإجازة، وهو يُميّز بين الخير والشر والجنة والنار أن يقف مع نفسه وقفةً صادقةً، وأن يضع نفسه بين الجنة والنار، فأي الدارين يريد؟! وإلى أين ينتهي به هذا الطريق الذي وضع قدمه عليه؟! فالخير والشر درجات.
فالخير في السلامة من المحرمات، والبعد عن الفتن والموبقات.
والشر والشقاء في الذهاب إلى الأماكن التي فيها الفتن وفيها سخط الله وغضبه وخاصة إذا أعان أهله على ذلك، قال الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34ـ37].
قال العلماء: إن الإبن يتعلق بأبيه بسبب عدم إعانته على طاعة الله.
فينبغي لكل مسلم يخاف سوء الحساب أن يختار لأهله الأخير والأكمل لدينهم ودنياهم.
فكم من مسافر اتقى الله في سفره فكان من خيار عباد الله الصالحين، فخرج باكياً على نفسه، ورجع من سفره بذنب مغفور وبعمل صالح مبرور.
وكم من مسافر أضاع حقوق ربه في سفره، فكان من عباد الله الأشقياء، فخرج يوم خرج فرحاً غافلاً عن ربّه وقلبه مشتعل من شدة شهوته، خرج إلى متعة أو شهوة ويظن أن الله لا يراه ولا يسمعه، فأشقاه الله بذلك الخروج بما أصاب من شهوته، فكم من كأس خمر تزل صاحبها على الصراط يوم تزل الأقدام، وكم من لذة أصابها صاحبها فكانت سبباً في حرمانه من النعيم فكان في أصحاب الجحيم.
أخي الحبيب: إنه لا خير في الأسفار إذا لم يشتر فيها العبدُ رحمة الله. فسافر يا أخي إلى عمرة أو سافر إلى زيارة الآباء والأمهات والأرحام، وخذ الأبناء والبنات إلى حيث تستوجب رحمة الله وتُدْخل السرور على أمك وأبيك؛ فيُنسئ الله لك في الأثر، ويزيد في عمرك، ويبسط لك في رزقك، ففي الحديث: { مَنْ أحب منكم أن يُنسأ له في أثره، ويُبسط له في رزقه، ويُزاد له في عمره فليصل رحمه }.
سافر إلى طلب العلم يرفعك الله درجات يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وإياك يا أخي المسلم أن تقضي الإجازة في الوقوع في الحرام، أو في انتهاك حرمات الله أو مشاهدة من عصى الله، أو الجلوس معه، فإن الله جعل العاصي والساكت في الإثم سواءً فقال: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140].
وأنصحك بالحذر من السفر إلى بلاد الكفر والعهر، أو البلاد التي تسهل طريق المعاصي، واعلم أن كثرة رؤية الحرام تهوّن المعاصي في القلب، وإن كنت تأمن على نفسك الفتنة فهل تأمنها أيضاً على من معك من الأبناء والبنات والزوجات؟! ألا تظن أن الله سائلك عن تلك القلوب البريئة التي تربَّت على العفَّة والطهر والمحافظة على حدود الله ثم نقلتها إلى بلاد الخلاعة والعري، وتركتها تتجول فيها بحجة إدخال الفرح والسرور عليهم، إنّ من طال فرحه في الدنيا طال حزنه يوم القيامة، ثم كيف يطلب العاقل السرور والمرح على حساب دينه وسخط ربه؟!
يا أخي، إن كنت تأمن على نفسك فلا تأمن على ولدك، وإلزم بيتك، وابْكِ على خطيئتك واحفظ لسانك، ومن أبى فالنار موعدُه.
إن من رحمة الله تعالى بك أن يحملك الله بين السماء والأرض وبين أطباق السماء ويحفظك برحمته، فلولا رحمته لكنت أشلاء، ولولا لطفه بك لكنت في لحظة واحدة إرباً فتقطعت كأن لم تكن شيئاً، بل بمجرد ما تُقلع الطائرة تجد كل واحد قد أمسك على قلبه ولو كان من أشجع الناس، ولو سمعت بخلل في الطائرة لطار عقلك وكنت تنتظر رحمة الله حتى تهبط الطائرة على الأرض.
يا أخي! مع هذه النصائح كلها إلى أين أنت ذاهب؟ وإلى أين أنت خارج؟ إلى إنتهاك حدود اللهّ أو إلى محارم تغشاها! أو إلى أعراض الناس تقع فيها! فإياك ثم إياك والأسفار المحرمة، فإنها تمحق بركة الأعمار فيخرج العبد من الدنيا صفر اليدين.
أخي الحبيب: إذا عرفت هذا كله فاعلم أنه ينبغي عليك أن تتعاطى الأسباب التي تعينك على البُعد عن الوقوع في الحرام أو الشبهات والتي منها:
[1] تقوى الله، والإكاثر من الدعاء أن يرزقك الله في سفرك البر والتقوى، ومن العمل ما يرضى، فهذا نبينا محمد يودع معاذاً وهو خارج إلى اليمن هادياً وداعياً فيوصيه قائلاً: { إتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن } وهذه هي الوصايا الثلاث من أعظم ما يحتاجه المسافر في سفره.
[2] حفظ الجوارح عن الحرام، فإن من أسباب فساد القلب إلقاء السمع إلى الحرام، وكثرة الإستماع إلى فضول الكلام، فليس من شرط فساد القلب الوقوع في الحرام فقط، بل قد يكون بفضول الكلام، فحاول ألا يدخل سمعك إلا ذكر الله، واحفظ بصرك عن الحرام وسائر جوارحك.
[3] عدم الإغترار بالمظاهر الكاذبة، فلا تغرنك لذة العسل إذا خلط بالسم، ولا يخدعنّك منظر الروضة الغنَاء إذا كان بعدها جهنم الحمراء، نعم ندب الإسلام إلى السير في الأرض، وحبب الضرب فيها، ولكن لا للهو ولا للعب ولا للمرح، ولكن كما قال الله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل:69]، فمن فوائد السير في الأرض أخذ العبرة من عاقبة المفسدين.
إن الحياة قد تزينت بالملاهي وبالحدائق وبالشاليهات والغانيات، ولكن القلب فيها محموم، والضمير فيها مسلوب، وسلّط الله على عُبّاد الشهوات السآمة والملل، فتارة يذهب أحدهم بالإرتماء على أمواج البحر، وتارة إلى الملاهي، وأخيراً قد ينتحر، وما زادتهم إلا حيرة ومللاً. يقول أحد الكفار: أليس من العجيب أن يعيش الواحد الوحدة وسط الزحام؟ قلنا: بلى، لكن إن سألت عن السبب فهو أن الواحد إذا عبد شهوته وهواه سلط الله عليه الحيرة والملل والنكد، فهم وإن كانت مراكبهم فارهة ومظاهرهم جميلة لكن أرواحهم موحشة وغاية دنياهم أذىً ووبال.
[4] لا تعرض دينك ونفسك للفتن فإنك لا تدري ماذا يحدث لك، فإن العبد قد يخرج من بيته ويخرج بأهله وولده إلى بلاد يحاربُ الله فيها بالمعاصي فيخسر دينه الذي هو أعز شيء عليه في هذه الحياة، هنيئاً لمن مات يوم مات وقد حفظ أعز شيء عليه في هذه الدنيا ـ أعني دينه ـ فلقي الله وقد سلم له دينه، فأدَّى الصلاة على وجهها وسائر أركان الإسلام، ولقي الله ولا يسأله مسلم بحق ولا دين ولا مظلمة، ومن مات وعليه دَينه حبست نفسه بدَينه. فقد ورد أن النبي أراد أن يصلى على رجل فسأل: { هل عليه دين؟ } قالوا: ديناران، فقال: { صلوا على صاحبكم }، فقال رجل: دينه عليّ، فصلّى عليه النبي . ثم إنه لقي الرجل بعد فترة فقال: { هل قضيت دينه؟ }، فقال: لا بعد، ثم لقيه مرة أخرى فقال: { هل قضيت عنه؟ }، قال: نعم، فقال : { الآن بردت جلدته }.
[5] من أخسر الناس صفقة من اشتغل بنفسه عن ربه فجلس يأكل ويشرب ويتمتع ويلهيه الأمل حتى لقي الله صفر اليدين من الخير، وكم من أُناس تمتعوا بالمعاصي فجاء عليهم زمان تمنوا معه أن لم يصيبوا حدّاً من حدود الله. إن الذين جربوا الإباحية في أوروبا وأمريكا ما وجدوا فيها أمناً ولا استراحت أرواحهم، وما وجدوا فيها إلا القلق والضيق واليأس، حتى إن أكثر البلاد إنتحاراً وعكوفاً على المخدرات هم أهل تلك الديار، ولقد شربوا كأس الحرام فما زادهم إلا عطشاً، إنه لا يروي هذا الظمأ إلا كأس الزواج فهي اللذة الآمنة والباقية، وهي التي لك وحدك وأنت لها وحدها، أما اللذة الحرام فلا تورث إلا شدة العطش والأمراض ويظل الواحد خائفاً على جسده من الأمراض ويخاف أن يعرف الناس خبره ويخاف على إسمه واسم أسرته أن تنالها الأسلنة. فاتقوا حياة الغرب فهم اليوم يبكون، وما يبكون إلا لأنهم حرموا لذة العيش وسرور الحياة وسُلبوا نعمة الأمن والطمأنينة.
أخي المسلم إن الإسلام ليس دين تزمت ولا يحارب طبيعة النفس ولا يحارب الفطرة، ولكن يمنع ما فيه ضرر.
[6] إن القلوب المؤمنة تتساءل أين طريق النجاة من الفتن في زمان عظمت فيه الفتن، زمان عَظُمَ شره وقلّ خيره، فقد تفنن الدعاة الذين وقفوا أنفسهم على أبواب جهنم يستدرجون الواحد حتى يقع في الذنب.
إن أعظم طريق للنجاة من الفتن هو البعد عنها، ومن أمن الفتن وقع فيها، والبعد عن قرناء السوء فكم تزينت بهم الليالي ولكن كانت عواقبهم وخيمة؛ جحيم وسعير وعذاب شديد، فابحث عن الأخيار إن أردت النجاة حتى لا تكون ممن قال الله فيهم: وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ [الشعراء:99].
[7] أخيراً أخي المسافر، إجعل نصب عينيك العمل الذي يدخل معك قبرك، فكم من أُناس دخلت عليهم الإجازة فكانت وبالاً عليهم كتبت عليهم النظرات والخطرات والخطوات، فلا تمش في قضاء شهوتك على حساب آخرتك، وقد نصحتك فاقبل نصحي، وإن كانت الأخرى فما أنا عليك بوكيل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم. |