الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد..
فهذه وقفات مع هذا الحدث، قصدت بها المذاكرة معكم معاشر الغُيّرُ على عِرْض رسول الله ، فأسأل الله أن ينفع بها.
الوقفة الأولى:
إن ما رأيناه أو طرق أسماعنا من تحرك واسع تداعى الناس فيه إلى الذب عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام سواء كان ذلك بإلقاء الخطب أو المحاضرات، أو عقد الندوات، أو الدعوة إلى مقاطعة الدينمارك والنرويج تجارياً، حتى ضحّى كثير من خيار التجار المسلمين ببعض ما بأيديهم نصرة لدينهم فنسأل الله أن يعوضهم خيراً، إلى غير ذلك من الجهود الطيبة يُعد من العمل الصالح الذي يدل على إيمان نابض، وغيرة شرعية على عرض صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام يُحمدون عليها ويُثابون.
الوقفة الثانية:
في مثل هذه الأحداث والتداعيات يحتاج الناس إلى مرجعية موثوقة يتلقون منها التوجيه لتحقيق الأهداف وتنتفي المفاسد والمحاذير، ولايصح بحال من الأحوال أن يكون كل أحد في مقام الموجه عبر وسائل ينشئها عبر الجوال أو غير ذلك من الوسائل فتحملهم الغيرة على ارتكاب بعض المحاذير والمخالفات الشرعية كما سنبين.
الوقفة الثالثة:
يجب على المسلم التثبت والتريث فلا يُقدِم على أمر حتى يتبينه، ويتوثق منه، وذلك أننا بحاجة إلى تمييز كثير مما يرد إلينا من رسائل أو ما يُنشر في الشبكة العنكبوتية أو ما نسمعه في المجالس، أو غير ذلك مما يتعلق بجوانب متعددة فمن ذلك:
1 - التحقق من نسبة المنتج إلى أولئك كي لا نقع في شيء من الظلم لأحد من المسلمين أو غيرهم، وهنا قد تدخل المنافسات بين الشركات ويبدأ تصفية الحسابات فنُصيب قوما بجهالة.
2 - قد يكون لهم شراكة في بعض المنتجات ثم زالت وتحول الأمر إلى غيرهم، وهو أمر لا بد من معرفته لئلا نُلحق بأحد ضررا من هذه الجهة.
3 - ربما كان التصنيع برمته في بلاد المسلمين إلا أن المصنع حصل على ترخيص من شركة هناك فمثل هذا تكون المقاطعة فيه عقابا لصاحب المصنع وهذا غير مراد.
4 - الاندفاع غير المنضبط قد يحمل صاحبه على دعوة الناس إلى أمور لا يُقرون عليها، كمن يدعو على توحيد الصيام والدعاء في يوم بعينه، أو يدعو إلى نشر رسالة مكذوبة يزعُم مختلقها أنه رأى الرسول ـ ويذكر أموراًـ ويطالب بنشرها إلى عشرة أشخاص وأنه سيرى بعد أربعة أيام -إن فعل- أمراً يسرّه، وإن لم يفعل رأى أموراً تسوؤه.
وقد يدعو بعضهم إلى مظاهرة (في البلاد التي لاتسمح بذلك)، أو أذية للأشخاص الذين ينتسبون إلى ذلك البلد لمجرد انتسابهم إليها دون أن يكون لهم جرم. وهذا كله لايسوغ، بل يؤدي إلى مفاسد أعظم كما لا يخفى.
5 - التحقق من صحة الأخبار التي تصل إلينا، ولايسوغ أن ننشر شيئاً من ذلك إلا بعد التأكد من صحته.
6 - التوثق والتحري فيما قد يُنشر في بلاد أخرى من هذه الرسومات أو غيرها فنفرق بين من فعل ذلك على وجه الاستهزاء والمكابرة، وبين من فعله قاصدا بذلك نقل الخبر (مع عدم إقرار هذا الصنيع).
الوقفة الرابعة:
ينبغي أن يكون لدينا أهداف واضحة ومطالبات محددة، فهذه المقاطعة إلى أي مدى ستنتهي؟ هل نكتفي باعتذار الرسام، أو الصحيفة، أو لابد من اعتذار الحكومة، أو نطالب مع ذلك كله بمحاكمة الرسامين ورئيس التحرير، أو نطالب بتسليمهم لمحاكمتهم شرعاً وإقامة حكم الله فيهم؟
الوقفة الخامسة:
لا ينبغي تخذيل الناس وتوهين عزائمهم تارة بدعوى عدم جدوى المقاطعة، وتارة بأن ذلك لم يقع حينما أهينت أوراق المصحف، إلى غير ذلك مما قد يُقال. لكن ينبغي أن يُعلم أن آثار المقاطعة ظهرت جلية على ألسنة القوم وفي اقتصادهم، وأما القول بأن هذا التحرك لم يقع عندما اُعتدي على القرآن الكريم فنقول: إن الضعف والتفريط في جانب لا يعني أن نفرط في الجوانب الأخرى، فإذا حصل تقصير في الانتصار للقرآن فليس معنى ذلك أن نخذل الناس عن الانتصار لرسول الله .
الوقفة السادسة:
التحليل والتحريم إنما يكون من قبل الشارع، ولا يجوز أن نُلزم الناس بأمر لم يُلزمهم الله به، فلا يسوغ إطلاق عبارات نُحرم فيها بيع بضائع هؤلاء أو نوجب شرعا مقاطعة منتجاتهم، ومعلوم أن البيع والشراء مع الكفار جائز شرعاً حتى الحربي منهم، لكن نقول: المقاطعة الاقتصادية في هذا العصر سلاح مؤثر، ومن هنا نحث الناس على ذلك لكن لا نقول بوجوبه أو نؤثم من عاملهم.
الوقفة السابعة:
الحذر الحذر من رد باطلهم بباطل مثله، وإنما ذكرت ذلك لما رأيت إحالة في أحد المنتديات على رابط يتضمن إساءة لعيسى عليه السلام، وهذا جرم عظيم قد يفعله بعض من لا خلاق له من اليهود ونحوهم، وقد تصدّر بعض هذه الحماقات من جهلة لا يراقبون الله في أقوالهم وأفعالهم. كما ذكر شيخ الإسلام (الفتاوى 6/25-26) عن بعضهم أنه ربما أعرض عن فضائل علي وأهل البيت لما رأى غلو الرافضة فيهم وتنقصهم للشيخين -رضي الله عن الجميع- ونُقِلَ عن بعض الجهلة أنه قال:
سُبَّوا عليّا كما سبُّوا عتيقكم *** كفر بكفر، وإيمان بإيمان
كما ذكر أن بعض المسلمين يعرض عن فضائل موسى وعيسى عليهما السلام بسبب اليهود والنصارى، حتى حُكي عن بعض الجهال أنهم ربما شتموا المسيح عليه السلام حين سمعوا النصارى يشتمون نبينا محمداً في الحرب.
الوقفة الثامنة:
إذا كان المطلوب هو مقاطعتهم لما يحصل من جراء ذلك من تأثير اقتصادي عليهم، فإن هذا يتوجه إلى من يستورد منهم البضائع وقد لا يرتدع بعض هؤلاء إلا إذا رأى بضاعته التي استوردها كاسدة في الأسواق. لكن من عُلم منه الصدق بأنه عزم على عدم الاستيراد منهم مستقبلاً، أو أنه لا يشتري هذه البضائع من مستورديها في المستقبل، فهل نطالب مثل هؤلاء بإتلاف ما بحوزتهم من بضائع قد صُنعت في تلك البلاد؟ فهذا موضع ينبغي التفريق فيه بين هذه الأحوال، والله أعلم.
الوقفة التاسعة:
علينا أن نوحد الجهد لتكون المقاطعة حالياً للدنيمارك والنرويج، دون أن نشتت ذلك بالمطالبة بتوسيع نطاقها، وإلا فإن ذلك سيؤدي إلى تلاشيها، ولكن يمكن بعد أن تتحقق أهداف المقاطعة أن يُنظر في توجيهها لغيرهم.
الوقفة العاشرة:
لا يجوز للمسلم في مثل هذه الأمور أن يكون جسراً ومعبراً لتلك الرسومات، فيساعد على نشرها حينما يتحدثُ عن هذا الموضوع بعرضها على الناس فيسيء وهو لا يشعر.
الوقفة الحادية عشرة:
ينبغي استغلال هذا الحدث داخل المجتمعات الإسلامية، وخارجها. أما الداخل فبمطالبة الناس بالتمسّك بسنّة النبي واتباعها، وبإحياء سيرته بينهم، وبيان حقوقه وما إلى ذلك، عبر دروس ومحاضرات وخطب وبرامج ومسابقات، إضافة إلى إحياء عقيدة الولاء والبراء، وبيان عداوة الكفار، وبطلان ما يتشدقون به من التسامح واحترام الأديان... إلخ.
وأما في المجتمعات الكافرة فبتعريفهم بمحاسن دين الإسلام، وشمائل نبي الهدى ، وسيرته العطرة.
الوقفة الثانية عشرة:
وافق وقوع هذه المقاطعة لدولة ليست قوية، كما أنها قليلة السكان، وما يستورد منها قليل أيضا مقارنة ببعض الدول الشرقية أو الغربية، وهي فرصة مناسبة للجميع بأن يُظهروا تضامنهم ويُوحدوا وجهتهم، وبهذا يمكنهم أن يبعثوا رسالة واضحة للعالم أجمع أنهم لا يقبلون المساس بدينهم ومعتقداتهم ومقدساتهم، وأنهم أمة حية صاحبة رسالة تعيش وتموت من أجلها.
وبهذا أيضا يمكن أن نستعيد قدراً من الثقة لدى المسلمين بعد أن توالت عليهم الهزائم في مختلف الميادين فيحصل شيء من الشعور بالعزة الإيمانية، ومن هنا يمكن نشتت بعض الجهود الرامية إلى إغراق الأمة بالمشكلات، والشبهات، والشهوات، لتكون أمة لاهية عابثة لا هدف لها في هذه الحياة.
|