(1891 كلمة)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد:
أخي الحبيب:
بيني وبينك نصيحة خالصة لوجهه الكريم، فأنت ممن نحبهم في الله، فإن حرصك على الصلاة مع جماعة المسلمين علامة خير وطريق استقامة وهي استجابة لنداء خالقك وبارئك الذي ترجو رحمته، وتخاف عقابه، فاحمد الله عز وجل أن لم تكن ممن ضيعها وفرط فيها فورد المهالك... قال : { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر } بل أبشر بحديث يسر قلبك ويؤنس خطوتك قال : { إذا رأيتم الرجل يعتاد الصلاة فاشهدوا له بالإيمان } [رواه الترمذي].
وأبشر – أخي المصلي – وأنت تسير في ظلام الليل الدامس بنور تام يوم القيامة كما في الحديث عن النبي { بشِّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة } [رواه أبو داود والترمذي].
إننا نفرح حينما نرى تلك الوجوه النيرة تتسابق إلى بيوت الله فيهم كبير السن الذي أثقلته السنون والشاب الذي ولى وجهه عن الملهيات والفتن... وفيهم أمل الأمة طفل لم بتجاوز العاشرة من عمره يسابق الجميع إلى الصف الأول فالحمد لله على هذا الفضل العظيم.
أخي المسلم:
أما وقد دلف المصلون إلى المسجد فإن لنا وقفات معهم لا تخلو من نصيحة صادقة وهمسة عتاب للأحبة.. فحال المصلين اليوم يجب الوقوف عندها لأننا نرى مظاهر تسئ إلى الصلاة ومن أبرزها:
1- عدم الطمأنينة وتأدية الصلاة بسرعة وعجلة ونقرها كنقر الغراب.
2- العبث بالفرش أو الحصى وتقليب العين في النقوش والزخارف.
3- الالتفات في الصلاة ورفع البصر إلى السماء.
4- السهو في الصلاة وعدم التركيز فلا يدري على كم ينصرف من الركعات.
5- كثرة الهواجس والخواطر وذكر أمور الدنيا في الصلاة.
6- العبث بالساعة والنظر إليها أو إصلاح أطراف الثوب وتحريك العباءة.
7- مسابقة الإمام في الركوع والسجود.
وهناك مظاهر أخرى توحي بعدم الطمأنينة والخشوع في الصلاة يلحظها كل مصل.. قد ذمها الله عز وجل في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الكريم .
أخي المصلي.. ما أتيت إلى هذه المساجد إلا طاعة لله عز وجل وامتثالاً لأمره فما بالك تُضيع ذلك بكثرة الحركة والغفلة في الصلاة.. ألم تعلم أن الخشوع هو روح الصلاة ومادة حياتها وإنسان عينها.. وهو ثمرة الإيمان وطمأنينة النفس. وأنك ربما تنصرف ولم يكتب لك من صلاتك إلا الشيء اليسير.
قال : { إن الرجل لينصرف، وما كتب له إلا عُشر صلاته، تُسعها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خُمسها، ربُعها، ثُلثها، نُصفها } [رواه أبو داود والنسائي]، { ونهى رسول الله عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير } [رواه أحمد وأبو داود وغيرهم].
وثبت عنه أنه قال: { أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته. قالوا يا رسول الله:وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها } وروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: { لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده }. وقال : { تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً } [رواه مسلم].
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: { أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله جالس فيه فرد عليه السلام، ثم قال له: ارجع فصل فإنك لم تصل. فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم علي النبي فرد عليه السلام ثم قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي فرد عليه السلام، وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاث مرات، فقال في الثالثة: والذي بعثك بالحق يا رسول الله ما أحسن غيره فعلمني. فقال : إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، وافعل ذلك في صلاتك كلها }.
وروى البخاري عن حذيفة بن اليمان أنه رأى رجلاً يصلي ولا يتم ركوع الصلاة ولا سجودها فقال له حذيفة: ما صليت ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة، مت على غير فطرة محمد صلى الله علية وسلم.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : { لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود } [رواه أبو داود والترمذي]، وفي رواية أخرى: { حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود }.
وهذا نص عن النبي في أن من صلى ولم يُقم ظهره بعد الركوع والسجود كما كان، فصلاته باطلة، وهذا في صلاة الفرض، وكذا الطمأنينة أن يستقر كل عضو في موضعه.
وقال : { خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة } [رواه أبو داود والنسائي].
قال الله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون أي خائفون ساكنون، والخشوع هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه هو الخوف من الله ومراقبته،والخشوع أيضاً هو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل. ويروى عن مجاهد أنه قال وقوموا لله قانتين فمن القنوت: الركود والخشوع وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها،واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها وقد ذكر الله عز وجل الخاشعين والخاشعات في صفات عباده الأخيار. وأنه أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
من أحوال الخاشعين في الصلاة
قال عمر بن الخطاب على المنبر: إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة، قيل: وكيف ذلك؟ فقال: لا يُتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله عز وجل.
هذا قول عمر بن الخطاب في صدر الإسلام، ماذا عن واقعنا نحن اليوم، والكثير –إلا من رحم ربي - تذهب به أحوال الدنيا كل مذهب، فهو يصلي ببدنه ولكنه يذهب بفكره إلى الدنيا وأسواقها ؛ يبيع ويشتري، ويزيد وينقص... وما ذاك إلا من الغفلة.
وقال الحسن: سمعهم عامر بن عبد قيس وما يذكرون من ذكر الضيعة في الصلاة، قال: تجدونه؟ قالوا: نعم، قال: والله لئن تختلف الأسنة في جوفي أحب إليَّ أن يكون هذا في صلاتي.
أخي الحبيب... أين نحن من هؤلاء؟ هذا عبد الله بن الزبير يركع، فيكاد الرخم يقع على ظهره، ويسجد فكأنه ثوب مطروح.
إننا نستغرب من ذلك الخشوع وتلك الطمأنينة وما ذاك إلا لأننا لا نرى هذا في واقع حياتنا وإلا فإن العنبس بن عقبة كان يسجد حتى تقع العصافير على ظهره، فكأنه جذم حائط.
ونسير مع الصالحين... فهذا أبو بكر بن عياش يقول: رأيت حبيب بن أبي ثابت ساجداً، فلو رأيته قلت ميت، يعني من طول السجود. وكان إبراهيم التيمي إذا سجد كأنه جذم حائط ينزل على ظهره العصافير. أما ابن وهب فقد قال: رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب، صلى، ثم سجد سجدة، فلم يرفع حتى نودي بالعشاء.
ولم يكن يشغلهم عن الصلاة شاغل، ولم يكن بينهم وبين الله حائل، فالانتباه مقتصر على الصلاة والخشوع لله والتذلل بين يديه.
فقد صلى أبو عبد الله النباحي يوماً بأهل طرسوس، فصيح بالنفير، فلم يخفف الصلاة، فلما فرغوا قالوا: أنت جاسوس، قال: ولم؟ قالوا: صيح بالنفير وأنت في الصلاة فلم تخفف. قال: ما حسبت أن أحداً يكون في الصلاة فيقع في سمعه غير ما يخاطب به الله عز وجل. وكان الإمام البخاري يصلي ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى الصلاة، قال: انظروا أيش آذاني.
وعن ميمون بن حيان قال: ما رأيت مسلم بن يسار متلفتاً في صلاته قط خفيفة ولا طويلة، ولقد انهدمت ناحية المسجد ففزع أهل السوق لهدته وإنه في المسجد في صلاته فما التفت.
وعندما سُئل خلف بن أيوب: ألا يؤذيك الذباب في صلاتك فتطردها قال: لا أُعوِّد نفسي شيئاً يفسد علي صلاتي، قيل له: وكيف تصبر على ذلك؟ قال: بلغني أن الفساق يصبرون تحت سياط السلطان فيقال: فلان صبور ويفتخرون بذلك ؛ فأنا قائم بين يدي ربي أفأتحرك لذبابة؟!!.
وهذا أبو طلحة صلى في حائط فيه شجرة فأعجبه دبسي - وهو طائر صغير - طار في الشجرة يلتمس مخرجاً، فأتبعه بصره ساعة، ثم لم يدر كم صلى؟ فذكر لرسول الله ما أصابه من الفتنة، ثم قال: يا رسول الله هو صدقة فضعه حيث شئت.
قال القاسم بن محمد: غدوت يوماً وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلِّم عليها، فغدوت يوماً إليها فإذا هي تصلي الضحى وهي تقرأ: فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السَّــموم [الطور:27]، وتبكي وتدعو وتردد الآية فقمت حتى مللت وهي كما هي، فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فقلت: أفرغ من حاجتي ثم أرجع، ففرغت من حاجتي ثم رجعت وهي كما هي تردد الآية وتبكي وتدعو.
وعن حاتم الأصم أنه سئل عن صلاته فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي والصراط تحت قدمي والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت ورائي أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف وأكبر تكبيراً بتحقيق وأقرأ قراءة بترتيل وأركع ركوعا بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع وأقعد على الورك الأيسر وأفرش ظهر قدمها وأنصب القدم اليمنى على الإبهام وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا؟
وهذه وصية بكر المزني تنادي بالحرص على الصلاة وإتمامها على وجهها الصحيح إذ قال: إذا أردت أن تنفعك صلاتك، فقل: لا أصلي غيرها.
ورغم تلك العناية بالصلاة وشدة المحافظة عليها فإن عثمان بن أبي دهرش قال: ما صليت صلاة قط إلا استغفرت الله تعالى من تقصيري فيها.
إخواني... لله أقوام امتثلوا ما أمروا، وزجروا عن الزلل فانزجروا، جنَّ عليهم الليل فسهروا، وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا، وطرقوا باب المحبوب واعتذروا إني جزيتهم اليوم بما صبروا .
ولكن !! كيف السبيل إلى الخشوع في الصلاة؟ وما هي الوسائل التي تعين على ذلك؟ هناك - أخي المصلي - أسبابٌ يرجى لمن فعلها أن يرزق الخشوع في الصلاة وهي على قسمين:
أولاً: أسباب لا تتعلق بالصلاة وهي:
1- توحيد الله عز وجل في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.
2- تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى والإخلاص له ومراقبته في السر والعلانية.
3- تجريد الاتباع للرسول .
4- تقوى الله بفعل المأمورات وترك المحظورات.
5- أكل الحلال الطيب والبعد عن الحرام وتجنب الشبهات.
6- الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بأن يرزقك الخشوع.
7- صحبة الخاشعين ومسايرتهم.
ثانياً: تتعلق بالصلاة... منها:
1-اجمع نفسك وأحضر قلبك قبل الدخول في الصلاة.
2-استشعار عظمة من ستقف أمامه وهو الله عز وجل.
3- الرجاء في الحصول على ثواب الصلاة كاملاً.
4- إحسان الوضوء وعدم الإسراف وترك الأعقاب.
5- تهيأ قبل الدخول في الصلاة فـ { لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان } [رواه مسلم]، وليكن المكان مهيأً للصلاة.
6- الحذر من التهاون في أداء الصلاة مع الجماعة والسعي لها مع الأذان.
7- لا تدع النوافل وبخاصة الرواتب كالوتر وسنة الفجر وعليك بقيام الليل.
8- تفكر في معاني الآيات والأذكار التي تقرأها وترددها.
9- لا تتعجل في صلاتك ولا تكن الصلاة أهون شيء عندك تؤديها كيفما كان.
10- التأدب في الصلاة بعدم الحركة أو الالتفات أو العبث المنهي عنه.
11- التزم بأحكام الصلاة وآدابها، واجعل نظرك في موضع سجودك... قال { صلوا كما رأيتموني أصلي }.
12- تابع الإمام فإنما جعل الإمام ليؤتم به.
13- فرغ قلبك من شواغل الدنيا... فهي كلها بما فيها من فتن وشواغل لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
14- تجنب الصلاة في الأماكن التي فيها آلات اللهو أو التصاوير أو تشويش أو أصوات ولغط.
15- صلِّ صلاة مودع فكل من نعرفهم رحلوا بعد صلاة مكتوبة وأنت لا بد منهم.
أخي المسلم:
قال : { ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله } [رواه مسلم].
جعل الله لنا من العمل أصوبه وأخلصه ومن الأجر أتمه وأكمله. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعاء لا يستجاب له، اللهم تجاوز عن سيئاتنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد صلى اله عليه وسلم. |